رمضان . . . والقلب الحي
قرأت ذات يوم أن طبيبا ذهب ليتفقد أحد المرضى ، والذي كان طريح الفراش لا
يُدرى سبب مرضه ، ولا يُعرف له علة ظاهرة ، فتناول الطبيب يد المريض ليقيس
النبض ، وأخذ أثناء ذلك يسأل من حوله عن أحواله ، ثم عرَّج فسأل عن جيرانه
، فأخذ النبض عندها يسرع شيئا فشيئا ، حتى إذا سأل عن جار بعينه وهنا أسرع
النبض أكثر ؛ حتى إذا سأل عن أبناء هذا الجار اضطربت أوصال المريض وازداد
النبض علوا ، فلما ذُكِر أن له ابنة حسناء وأتى ذكر اسمها سَرَت الرعشة من
نبضه إلى جسده الذي بدأ يرتجف وبصره الذي زاغ ووجهه الذي أمطر العرق ،
فقال الطبيب لأهله عندها : هذا ليس بمريض!! هذا رجل عاشق!!
فلماذا لا نقبل على رمضان بقلب يعشق الطاعة ؟!
قلب يحن للخلاص من ظلمة المعصية إلى نور الإيمان !
قلب يطير على جناح الشوق إلى مولاه !
قلب يكون شعاره " وعجلت إليك رب لترضى " !
و لذلك تعجب عبد الله بن محمد عندما سمع امرأة من المتعبدات تقول - وهي
باكية والدموع على خدها جارية - : والله لقد سئمت من الحياة حتى لو وجدت
الموت يباع لاشتريته شوقاً إلى الله تعالى وحباً للقائه، قال: فقلت لها:
فعلى ثقة أنت من عملك ؟ قالت : لا ولكن لحبي إياه وحسن ظني به أفتراه
يعذبني وأنا أحبه ؟! " إحياء علوم الدين " .
سافر بقلبك إلى الله
قال يحيى بن معاذ : مفاوز الدنيا تقطع بالأقدام، ومفاوز الآخرة تقطع
بالقلوب."حلية الأولياء" .
فأقبل على ربك في رمضان بقلب كأنه ولد من جديد ، ولم يتلطخ بمعصية ، وليس
فيه شوق إلا إلى خالقه ، واعلم أن القلب المقبل على الله لا يجد عناء ولا
مشقة ، و لذلك " لما سافر موسى إلى الخضر وجد في طريقة مس الجوع والنصب
فقال لفتاه آتنا غداءنا لقد لقينا من سفرنا هذا نصبا فإنه سفر إلى مخلوق
ولما واعده ربه ثلاثين ليلة وأتمها بعشر فلم يأكل فيها لم يجد مس الجوع ولا
النصب فإنه سفر إلى ربه تعالى وهكذا سفر القلب وسيره إلى ربه لا يجد فيه من
الشقاء والنصب ما يجده في سفره إلى بعض المخلوقين " [بدائع الفوائد - ابن
القيم الجوزية ج3ص721 ]
اطلب قلبك ... وداوه
أتاح لك القدر فرصة إصلاح قلبك ، و أتتك النفحات الربانية في أيام الله ،
فاغتنم الفرصة في رمضان وعالج قلبك مما علق به ، فكما يقول الدكتور مجدي
الهلالي في مقال له بعنوان [رمضان والشمعة المحترقة ] : "شهر رمضان فرصة
عظيمة لشحن القلب بالإيمان ، وترويض النفس وتزكيتها ، فإن ضاعت من المسلم
هذه الفرصة ، فأي حال سيكون عليها قلبه وإيمانه ؟ فمن لم يُحيِ قلبه في
رمضان فمتى يحييه ؟! ومن لم يتزوَّد بالإيمان في رمضان فمتى يتزوَّد ؟! " .
وحُكي عن إبراهيم الرقي أنه قال: قصدت أبا الخير التيناتي مُسَلِّماً عليه
، فصلى صلاة المغرب فلم يقرأ الفاتحة مستوياً . فقلت في نفسي: ضاعت سَفرتي،
فلما سلمت خرجت للطهارة فقصدني السبع ، قعدت إليه وقلت: إن الأسد قصدني!!
فخرج وصاح على الأسد وقال: ألم أقل لك لا تتعرض لضيافتي؟؟ وتنحى وتطهرت.
فلما رجعت قال: اشتغلتم بتقويم الظواهر فخفتم الأسد، واشتغلنا بتقويم القلب
فخافنا الأسد . [الرسالة القشيرية ]
و لقد نبهنا عبد الله بن مسعود - رضي الله عنه – إلى مواطن حضور القلب فقال
: "اطلب قلبك في ثلاثة مواطن : عند سماع القرآن ، وفي مجالس الذكر وفي
أوقات الخلوة ، فإن لم تجده في هذه المواطن فسل الله أن يمن عليك بقلب فإنه
لا قلب لك " .
وهذا هو سليمان الخوّاص يدلنا على الوصفة الإيمانية لعلاج القلوب فيقول :
دواء القلب خمسة أشياء : قراءة القرآن بالتدبر، وخلاء البطن ، وقيام الليل
؛ والتضرع عند السَحر، ومجالسة الصالحين .
وداو ضمير القلب بالبر والتقى ... فلا يستوي قلبان: قاسٍ وخاشع
من أي نوع قلبك ؟
انظر في قلبك ، وتعرف على علله ، و اسأل نفسك أي نوع من القلوب هو ؟
يقول ابن القيم في كتابه "إغاثة اللهفان " : " قسم الصحابة رضي الله تعالى
عنهم القلوب إلى أربعة كما صح عن حذيفة بن اليمان : القلوب أربعة : قلب
أجرد فيه سراج يزهر فذلك قلب المؤمن وقلب أغلف فذلك قلب الكافر وقلب منكوس
فذلك قلب المنافق عرف ثم أنكر وأبصر ثم عمى وقلب تمده مادتان : مادة إيمان
ومادة نفاق وهو لما غلب عليه منهما .
" فمتى رأيت القلب قد ترجل عنه حب الله والاستعداد للقائه وحل فيه حب
المخلوق والرضا بالحياة الدنيا والطمأنينة بها فالعلم أنه قد خسف به .
ومتى أقحطت العين من البكاء من خشية الله تعالى فاعلم أن قحطها من قسوة
القلب وأبعد القلوب من الله القلب القاسي .
ومتى رأيت نفسك تهرب من الأنس به إلى الأنس بالخلق ومن الخلوة مع الله إلى
الخلوة مع الأغيار فاعلم أنك لا تصلح له " . [ بدائع الفوائد - ابن القيم
الجوزية ] .
أدب قلبك
سأل أحمد بن حنبل شيبان الراعي – وكان أميا - : ما تقول فيمن نسي صلاة من
خمس صلوات في اليوم والليلة ، ولا يدري أي صلاة نسيها ، ما الواجب عليه :
يا شيبان ؟! فقال شيبان : يا أحمد، هذا قلب غفل عن الله تعالى ، فالواجب أن
يؤدب حتى لا يغفل عن مولاه بعدُ !! فغشي على أحمد . "الرسالة القشيرية"
ورأت فأرة جملا فأعجبها فجرت خطامه فتبعها فلما وصلت إلى باب بيتها وقف
فنادى بلسان الحال إما أن تتخذي دارا تليق بمحبوبك أو محبوبا يليق بدارك
وهكذا أنت إما أن تقبل على الله بقلب يليق به وإما أن تتخذ معبودا يليق
بقلبك ، تعاهد قلبك فإن رأيت الهوى قد أمال أحد الحملين فاجعل في الجانب
الآخر ذكر الجنة والنار ليعتدل الحمل فإن غلبك الهوى فاستعنت بصاحب القلب
يعينك على الحمل فإن تأخرت الإجابة فابعث رائد الانكسار خلفها تجده عند
المنكسرة قلوبهم مع الضعف أكثر فتضاعف ما أمكنك." بدائع الفوائد لابن القيم
بتصرف "
قال ابن الأزرق في كتابه " بدائع السلك في طبائع الملك " : " إن سرائر
القلوب منابع الأعمال ومغارس بذرها ، فمتى عذب موردها ، وأينع روضها ، دل
على أن القلب صالح السريرة لا محالة ، وقال الحارث المحاسبي في "رسالة
المسترشدين " و من اجتهد في باطنه ورثه الله حُسن معاملة ظاهره ، ومن
حَسَّن معاملته في ظاهره مع جهد باطنه ورثه الله الهداية إليه ، قال تعالى
"وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ
لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ " سورة العنكبوت الآية 69 .
[/b]
ابعث في قلبك الحياة
قال علي بن أبي طالب : " إن لله في أرضه آنية وإن من آنيته فيها القلوب ،
فلا يقبل منها إلا ما صُفِّي ، وصَلُب ، و رَقَّ "، فرقق قلبك وابعث فيه
الحياة بمداومة ذكر الله تعالى ، و انآى به عن التعلق بالدنيا ، خصوصا في
مواسم الطاعات ، و تعلم من سليمان الخوّاص رحمه الله حيث قال: الذكر للقلب
بمنزلة الغذاء للجسد ، فكما لا يجد الجسد لذة الطعام مع السقم، فكذلك القلب
لا يجد حلاوة الذكر مع حب الدنيا . واعلم أن " القلب المحب لله يحب النصب
لله عز وجل " كما قال الإمام مالك .
و عَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -
ضَافَهُ ضَيْفٌ وَهُوَ كَافِرٌ فَأَمَرَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله
عليه وسلم- بِشَاةٍ فَحُلِبَتْ فَشَرِبَ حِلاَبَهَا ثُمَّ أُخْرَى
فَشَرِبَهُ ثُمَّ أُخْرَى فَشَرِبَهُ حَتَّى شَرِبَ حِلاَبَ سَبْعِ شِيَاهٍ
ثُمَّ إِنَّهُ أَصْبَحَ فَأَسْلَمَ فَأَمَرَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ -صلى
الله عليه وسلم- بِشَاةٍ فَشَرِبَ حِلاَبَهَا ثُمَّ أَمَرَ بِأُخْرَى فَلَمْ
يَسْتَتِمَّهَا فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- « الْمُؤْمِنُ
يَشْرَبُ في معي وَاحِدٍ وَالْكَافِرُ يَشْرَبُ في سَبْعَةِ أَمْعَاءٍ ».
رواه مسلم .
فالرجل الذي بات عند رسول الله - صلى الله عليه وسلم – هو نفسه الذي أصبح !
فما الذي تغير فيه ؟ لقد تغير فيه قلبه ، عندما بعث فيه الحياة بإسلامه ،
فتغيرت جوارحه تبعا لذلك .
أما آن الأوان لكي نصحح وجهتنا إلى الله تعالى ؟!
أما آن الأوان لكي نلملم شعث قلوبنا وما تبقى منها ، و نقبل على الله ؟
فكم من رمضان دخلناه وخرجنا منه بقلب لم يتغير !
وكم من موسم للطاعة مر علينا دون أن يغير في نفوسنا شيئا !!
أعلن توبتك الآن قبل فوات الأوان ، و فتش في قلبك عن الخير ونميه ، وعن
الشر فاقض عليه ، واستعن بالبكاء بين يدي مولاك ، فلسان الدمع أفصح من لسان
الشكوى .
"قال بعض السلف: رأيت شاباً في سفح جبل عليه آثار القلق ودموعه تتحادر،
فقلت: من أين ؟، فقال : آبق من مولاه ، قلت : فتعود فتعتذر ؟ فقال : العذر
يحتاج إلى حجة ولا حجة للمفرط ، قلت فتتعلق بشفيع ؟ قال : كل الشفعاء
يخافون منه ، قلت : من هو ؟ قال : مولى رباني صغيراً فعصيته كبيراً ، فوا
حيائي من حسن صنعه وقبح فعلي ، ثم صاح فمات ، فخرجت عجوز فقالت : من
أعان على قتل البائس الحيران ؟ فقلت : أقيم عندك أعينك عليه ، فقالت : خلّه
ذليلاً بين يدي قاتله عساه يراه بغير معين فيرحمه " [ المدهش لابن الجوزي ]